لمحة عن النانو تكنولوجي

لمحة عن التقانة النانوية بقلم الدكتور ابراهيم الغريبي

 

 


 

يحتل علم  الصغريات و التقانة النانوية nanotechnology فى عصرنا الراهن مكانة مرموقة فى حياة مختلف الشعوب، ويؤثر بصورة مباشرة فى التنمية الشاملة لكل المجتمعات. فهذه التقنية الواعدة تبشر بقفزة هائلة في جميع فروع العلوم والهندسة ، ويرى المتفائلون أنها ستلقي بظلالها على كافة مجالات العلم والطب الحديث والاقتصاد العالمي و ستحدث ثورة صناعية هائلة وتفوق في المجال العسكري وغزو الفضاء بواسطة مركبات نانوية صغيرة الحجم.

 

 

هل التقانة النانوية حقيقة أم خيال ؟

 

 

يعتقد البعض بان تقانة النانو وخلق أشياء لا ترى بالعين المجردة مجرد خيال علمي وضرب من المستحيل لا أساس له من الصحة كحرب المجرات والمخلوقات المريخيه والأفلام السينيمائية التي تتحدث عن المركبات المصغرة التي تُحقن في الدم (كفيلم الرحلة الفضائية الممتعة) أو فيلم (كان يا ما كان الحياة) و لكن التقدم العلمي والتقصي والابتكار ولاختراع في مختلف المجالات العلمية والتطبيقية في وقتنا الراهن فتح الباب أمام تقانة جديدة يمكن من خلالها صنع أي شيء نتخيله وذلك عن طريق صف جزيئات المادة إلى جانب بعضها البعض بشكل لا نتخيله وبأقل كلفة ممكنة، وهي بذلك تفتح الأبواب على مصراعيها لإحداث ثورات علمية وصناعية في جميع المجالات. فمشروع المركبات الدقيقة (الربوتات) التي تسير مع الكريات الحمراء أصبح أمراً محتملاً وقابل للتحقيق على أرض الواقع. وبهذا بات العالم النانوي وعالم الصغائر عالما واقعيا بعد أن كان شبحاً أو ما يعرف بعفريت ماكسويل حيث تخيّل "مخلوقاً ذرياً" يقف حارساً على "بوابة ذرية" تقع بين وعاءين يحتويان على غاز فيمنع هذا الحارث  ذرات الغاز النشطة من اجتياز البوابة، ويسمح لتلك الأقلّ نشاطاً بعبورها لينتهي الأمر بتنظيم جزيئات الغاز بحيث تجتمع الذرات النشطة في وعاء، وتبقى الذرات الأقلّ نشاطاً في الوعاء الآخر. وهذه الرغبة الجامحة في التحكّم و السيطرة على الذرة المنفردة وتحريكها بحرية وترتيبها على النحو الذي يرغب فيه لتكوين مادة جديدة قد تحققت بولادة أول جهاز نانوي "الميكروسكوب النفقي الماسح" يتيح فرصة التعامل المباشر مع الذرة لينفتح الباب على مصراعيه أمام "تقنية النانو" التي يبدأ مجال عملها من البنية الأساسية  للمادة وهي الذرة مما يجعل تأثيرها كبيراً على جميع مجالات العلوم، ولتصبح مجالاً جامعاً لمجموعة كبيرة من التخصصات العلمية والتطبيقية، بمعنى آخر فان علم النانو تكنواوجي يمكن أن يوحد العديد من العلوم (الفيزياء، الكمياء، الأحياء والهندسة ومجالات عديدة أخرى)  وراحت هذه التقنية تحمل وعوداً ضخمة لتطبيقات "نانوية" متعدّدة ومتنامية في مختلف مجالات العلم والبحث والتطوير والصناعة والطب والهندسة وغيرها.

 

ما هو المقصود بالنانو و نانوتكنولوجي ؟

 

 

تطلق كلمة نانو "nano" باللغة الإنجليزية على كل ما هو ضئيل الحجم دقيق الجسم،  وكلمة "نانو" مشتقة من كلمة "نانوس"، ومن كلمة  "dwaref" الإغريقية اليونانية وتعني "القزم" أو جزء من البليون من الكل و"النانومتر" هو مقياس واحد من ألف من مليون من المتر، أي واحد على مليار من المتر، أي أنه يمثل واحدا على ثمانين ألف من قطر شعرة واحدة من الإنسان! ، وهو بذلك أصغر وأدق وحدة قياس مترية معروفة حتى الآن ولا يمكن بناء شيء اصغر منه. انه المقياس الذي يستخدمه العلماء عند قياس الذرة والالكترونات التي تدور حول نواتها. وكلمة نانوتكنولوجي تستخدم بمعنى أنها تقنية المواد المتناهية في الصغر أو التكنولوجيا المجهرية الدقيقة أوتكنولوجيا المنمنمات. خلال التحكم و التعامل مع المستوى الجزيئي وترتيبه ذرة فذرة على النحو الذي نرغب فيه لإنتاج مادة معينة وهذا النوع من الترتيب يعرف بالتصنيع الجزيئي، ووضع الذرات في مكانها المناسب، فمثلا لو تم توجيه وضع ذرات الكربون في الفحم عند إجراء التفاعل فإنه يمكن تنتج الألماس ؛ فالذرة، كما هو معلوم، هي البنية الأساسية في المواد، والجزيء هو ناتج عن اتحاد مجموعة من الذرات لتكوين مادة جديدة، وبالتالي فإن الذرات والجزيئات هي التي تحدّد سلوك المواد وتفاعلاتها وظواهرها المختلفة مما يعني أن التحكّم في كل ذرة أو جزيء على انفراد  يمكن أن يفتح آفاقاً علمية وتقنية جديدة تدعى بتقانة النانو. والتقانة النانوية تعني القدرة على التحكم التام والدقيق في إنتاج مواد جديدة وخصائص مبتكرة لم تكن موجودة من قبل.

 

النانو تكنولوجي من أي الاجيال هو ؟

 

النانو تكنولوجي هو العلم الذي يتوقع له أن يغزو العالم بتطبيقاته التي قاربت الخيال وبات يعرف  في عالم الإلكترونيات بالجيل الخامس الذي ظهر مؤخرا مع ولادة النانو المتناهي في الصغر والقدرة على السيطرة على حركة الذرة الواحدة  وبالتالي القدرة على تصنيع المنتجات بدءاً من الذرات. وقد سبق أولاً الجيل الأول الذي استخدم المصباحالإلكتروني ( Lamp) بما فيه التلفزيون، والجيل الثاني الذي استخدم جهاز الترانزيستور، ثم الجيل الثالث من الإلكترونيات الذي استخدام الدارات التكاملية  (IC = Integrate Circuit ) وهي عبارة عن قطعة صغيرة جداً قامت باختزال حجم العديد من الأجهزة بل رفعت من كفاءتها وزادت من وظائفها .
وجاء الجيل الرابع باستخدام المعالجات الصغيرة
Microprocessor الذي أحدث ثورة هائلة في مجال الإلكترونيات بإنتاج الحاسبات الشخصية (Personal Computer) والرقائق الكومبيترية السيليكونية التي أحدثت تقدماً في العديد من المجالات العلمية والصناعية.

 

تقنية النانو وامتداد جذورها عبر التاريخ!

 

إن تقنية النانو لا يمكن ربطها بعصر أو بحقبة تاريخية خاصة، بل لها جذر عميق على امتداد العصور ولأجيال. ففي القرن الرابع للميلاد تم تصنيع أول كاس ملكي للملك الروماني لايكورجوس مطرز بمادتي الذهب والفضة وتم الكشف عنه مؤخراً في إحدى المتاحف البيزنطية فوجد بأنه كان مصنوعا من جسيمات نانوية من الذهب والفضة. كما أن تقنية التصوير الفوتوغرافي قد اعتمدت منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على إنتاج  أفلام  وأغشية مصنوعة من جسيمات فضة نانوية حساسة للضوء. وفي العصور الوسطى استخدم صانعوا الزجاج حبيبات الذهب النانوية الملونة لتلوين الزجاج وإعطائها شكلها الجميل. و من الشعوب الأولى التي استخدمت هذه التقنية دون أن تدرك ماهيتها هم العرب حيث كانت السيوف الدمشقية المعروفة بالمتانة تعتمد في تركيبها على مواد نانوية تعطيها قساوة وقوة مذهلة غير عادية للقطع، حيث تم الكشف عن هذا السر العجيب للسيف الدمشقي من قبل إحدى البعثات الألمانية، فقد تبين أثناء تحليل لقطعة منه وجود لأثار أنابيب متناهية الصغر من الكربون والتي تعتبر من أقوى المواد المعروفة بمرونتها ومقاومتها المرتفعة للشد. واليوم صارت تلك الأنابيب متناهية الصغر المصنوعة من الكربون قمة تكنولوجيا النانو أو علم المواد متناهية الصغر. والسؤال الذي يطرح نفسه أما آن لهذه الجذر العميق المتشبثة بالأرض أن تنبثق من جديد للسير في ركب هذه الحضارة وللنهل من علوم هذه التقانة !!

 

أين نحن من هذه التقانة؟

 

تقنية النانوتكنولوجي (التقنيات المتناهية في الصغر) أحد أهم الاتجاهات العلمية العالمية الحديثة التي تشهد حالياً تطوراً سريعاً وتنافساً متزايداً، وبخاصة في الدول المتقدمة، والتي ستغير أوجه حياتنا في الحاضر والمستقبل.  ولذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه أين نحن من هذه التقانة ؟... وأين نحن من هؤلاء المتنافسين لامتلاك هذه التقانة؟ مما لا شك فيه نحن نعيش في جمود معرفي كمن يغرد بعيدا عن السرب بل كشاة قاصية تمشي في أخر القطيع لا تعلم متى تفترسها الذئاب. يؤسفني هذا القول بل هذا هو حال العلم العربي مقارنة مع العالم الأخر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفق البلايين من الدولارات في تطوير موئسات البحث العلمي وتطوير مثل هذا النوع من التقانات. ولكن إلى متى....!! لا بد من ثورة علمية في كافة مجالات العلوم وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا ببذل جهد وعمل لتطوير التقانة النانوية في عالمنا العربي، كون هذا النوع من التقانات اقرب العلوم و بدون منازع إلى مصطلح العلوم المتعددة التخصصات، ومن المستحيل أن يخلو مجال من مجالات البشرية من اعتماد على هذه التقانة و بالتالي هي المستقبل الواعد الذي يمكن من خلاله تحقيق قفزة نوعية في جميع فروع العلوم والهندسة والطب و.......الخ.

 

نظراً إلى أهمية هذا المجال الجديد في عالمنا العربي وندرة المساهمات فيه والتي تكاد تكون خجولة ولا تذكر، تسعى بعض الدول العربية اللحاق بالركب النانوي ،و تعتبر المملكة العربيّة السعوديّة السبّاقة عربيًّا في مجال الاهتمام بتكنولوجيا النانو، تليها الإمارات العربيّة المتّحدة وقطر والكويت وسلطنة عمان ومصر والأردن وتونس. وفي سوريا هناك محاولات واعدة من قبل بعض الباحثين في قسم الفيزياء بجامعة دمشق لتوطين هذه التقانة ودخول في هذا العالم الصغير وذلك من خلال:

  • انشاء وحدة خاصة بالنانو تكنولوجي بقسم الفيزياء.
  • إلقاء سلسلة من المحاضرات العلمية لتغطية اكبر مجال من هذا العلم الجديد و الذي يمكن بدوره أن يتطور ليصبح مشروعا مستقبليا لإقامة وعقد ندوات علمية وبحثية تتحدث عن التقانة النانوية وتطبيقاتها في الحياة البشرية.
  • الإشراف على عدد من المشاريع البحثية للدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) وذلك بعد امتلك قسم الفيزياء بعض الأجهزة والتقانات العلمية لتمييز ومعالجة ومشاهدة البنى النانوية ومن أهم هذه التقانات: مجهرية القوية الذرية (AFM)، و مجهر التأثير النفقي الماسح (STM).
  •  

 ما هو مستقبل التقانة النانوية وفن التصغير في صناعة الاشياء؟

 

لا شك أن "تقنية النانو"ستدفع بالبشرية نحو عالم مثير ومذهل، ومن أبرز التوقّعات المستقبلية لهذه التقنية هي إحداث سلسلة من الثورات الصناعية والاكتشافات العلمية خلال العقدين القادمين وما سيرافقها من تغير هائل في الكثير من ملامح الحياة في مجالات شتى، ولذا بدأ السباق المحموم في أبحاث وتطبيقات "النانو" على المستوى العالمي، ويُتوقّع أن تكون البحوث والتقنيات "النانوية" أكبر المشروعات العلمية في هذا القرن. حيث يعتقد العلماء أن تقنية النانو ستحل مجموعة من التحديات التي تواجه البشرية كالأمراض وتوفير المياه النظيفة للجميع فضلا عن الزراعة و الصناعة و مجالات الطاقة البديلة و البيئة وتكنولوجيا الاتصالات الضوئية و نقل المعلومات وفي مجال الحربي والعسكري وغيرها.

 

هل التقانة النانوية هي تقانة مخيفة فعلا ؟

 

تحصل دوما عند كل تطور علمي أو تكنولوجي انتقادات وتنتشر المخاوف . كما حصل في الثورة الصناعية الأولى وعند اختراع القنبلة الذرية وظهور الهندسة الوراثية وغيرها. تتركز هذه المخاوف على عنصرين : الأول هو أن جزيئات النانو هي عبارة عن جزيئات صغيره جدًا إلى الحد الذي يمكنها من التسلل إلى جهاز المناعة في الجسم البشري وتخريبه، والأكثر إثارة للقلق هو أن بإمكان هذه الجزيئات أن تتخطى حاجز دم الدماغ !. وذلك من خلال استخدام بعض منتجات التقانة النانوية كالمراهم المضادة للشمس التي يمكن أن تصيب الحمض النووي DNA للجلد بالضرر. الثاني من المخاوف هي أن يصبح الجزيء النانوي ذاتي التكاثر, أي يشبه التكاثر الموجود في الحياة الطبيعية فيمكنه أن يتكاثر بلا حدود ويسيطر على كل شيء في الكره الأرضية. وقد بدأت بعض المنظمات العالمية من بيئة وصحة بتنظم بعض المؤتمرات لبحث مخاطر هذه التقانة وسوء استخدامها .وأخيرا ومهما يكن، فالإنسانية على أبواب مرحلةٍ جديدةٍ ايجابياتها لا تعد ولا تحصى و مخاطرها كبيره فلا بد من حسن استخدامها وتسييسها بلاتجاه الصحيح، وكما يقول معظم العلماء: " لا يمكن لأي كان الوقوف في وجه هذا التطور الكبير، فلنحاول تقليص السلبيات ".

 

 ما هي تطبيقات التقانة النانوية ؟

 

تهدف التقانة النانوية إلى تصنيع المنتجات بدءاً من الذرات. وتتحدد خواص هذه المنتجات بكيفية ترتيب ذراتها في المادة. على سبيل المثال، باستخدام التقانة النانوية يمكن تصنيع ما يسمى بالذرة الصناعية أو ما يسمى باللغة الانكليزية بالكوانتم دت ) (quantum dot أو بالعربي النقط الكمية. ومن أهم تطبيقات الذرات الصناعية هي تطوير منظومة الاتصالات الضوئية المحمية وصناعة ليزرات نقطية تستخدم في المجال العسكري وكشف الملوثات بالجو بالإضافة الى إمكانية صناعة دي في دي ليزري يسمح بتخزين معلومات هائلة يمكن أن تصل إلى أكثر من ألفي فلم سينمائي وصولا الى صناعة كمبوترات كمومية يمكن أن نخزن معلومات الكرة الأرضية عليه.

 

من خلال التقانة النانوية يمكن التلاعب بالمواد والأوساط، وبالتالي يمكن أن تقلب الحقائق رأسا على عقب وصنع كل شيء يخطر بالبال. يمكن على سبيل المثال أن نجعل سرعة الصوت تزيد على سرعة الضوء، وذلك من خلال تمرير الصوت في أوساط تحتوي على مواد نانوية. فمن خلال تقنية النانو تكنولوجي، يمكن صنع سفينة فضائية في حجم الذرة، يمكنها الإبحار في جسد الإنسان، لإجراء عملية جراحية، والخروج بدون جراحة، ، كما يمكن صنع سيارة بحجم الحشرة وطائرة تجسوسية بحجم البعوضة، وأيضا صناعة الأقمشة، التي لا يخترقها الماء، بالرغم من سهولة خروج العرق منها وملابس اخرى تتمتع بقساوة عالية لتصبح مضادة للرصاص واشظايا. وفي المجال الطبي يمكن ايجاد مكبات نانوية تدخل جسم الانسان وترصد مواقع الامرض و تشخيصها وتحقن الأدوية فيها ويمكن أيضا محاربة أنواع الخلايا السرطانية واستئصالها وملاحقة الفيروسات وتدميرها، وهناك استعمالات كثيرة لا تعد ولا تحصى لا يسع المكان إلى التطرق إليها.

 

 

 

 

 

 

 



عداد الزوار / 3033700 /