العلاقة بين الحزب وبناء الدولة في سورية ( رؤية مستقبلية ) للأستاذ الدكتور محمد حسون

 عمل حزب البعث العربي الاشتراكي على لعب أهم الأدوار في تاريخ سورية، حيث كان له الدور الأبرز في مسيرة التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي، واستطاع في فترة زمنية قصيرة من لعب أدوار في الحياة البرلمانية السورية، وعمل على تأصيل الخطاب الوحدوي في المنطقة فكراً وممارسة من خلال تحقيق الوحدة السورية المصرية، وتمكن من خلال ثورة الثامن من آذار من استعادة الاستقرار والأصالة العربية للنظام السياسي في سورية، وتعزز ذلك من انطلاق مسيرة بناء المؤسسات السياسية والتشريعية والقضائية من خلال الحركة التصحيحية.

ومع انطلاق مسيرة التطوير والتحديث بعد عام 2000 وضع المؤتمران القطريان التاسع والعاشر للحزب الاستراتيجيات وأساليب العمل المناسبة للانطلاق في تحقيق الغايات الكبرى من هذه المسيرة والتي تتلخص في مواكبة سورية تطورات القرن الحادي والعشرين الاقتصادية والعلمية، ومحافظة سورية على دورها الريادي في العالم والمنطقة.ومع انطلاق الحرب على سورية في عام 2011 كان حزب البعث في عين العاصفة وتمّ استهدافه بسبب دوره الأساسي في تاريخ سورية وامتلاكها الحاضنة الأكبر للمشروع الوطني السوري، الأمر الذي دفع الحزب للمواجهة كجزء أصيل من المجتمع السوري عبر مبادرات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية.

وبالتزامن مع ما يملكه الحزب من إرث تاريخي، ونضالي عبر مسيرته النضالية الطويلة، يمتلك كل المقومات للعمل بالتوافق مع مختلف مكونات المجتمع السوري على المساهمة في إعادة بناء، وترميم المجتمع السوري عبر المرحلة القادمة وفق محاور متعددة.

وانطلاقاً من اللقاء الذي جمع السيد الرئيس مع مجموعة من المفكرين والكتاب، وتأكيد سيادته على ضرورة إخضاع الظواهر السياسية والمجتمعية إلى التحليل المعمق، ورصد الواقع بكل تفاصيله وحيثياته، ووضع رؤية استشرافية وخطوط إستراتيجية عامة للمرحلة القادمة، نرى أهمية التأكيد على الآتي:

أولاً: اعتقد أن المسألة الملحة والضرورية للحزب في المرحلة القادمة هو العمل على تطوير وتعزيز بناه الفكرية والتنظيمية، وإجراء مراجعة نقدية لتوجهاته وسياساته العامة، بما تتطلبه مستحقات المرحلة القادمة، وخاصة بعد التحولات الكبرى التي حصلت على كامل الجغرافيا السورية، ومع الأخذ بالاعتبار أن الاتجاه العام للأحزاب العالمية في المرحلة الراهنة تتجه لأن تكون خدميّة أكثر منها إيديولوجية، وأن يشعر المواطن أن الهيئات القيادية الحزبية تقدم له خدمات تحقق مصلحته في نهاية المطاف.

إذ بعد الأحداث التي عصفت بسورية خلال السنوات الماضية، تبيّن أنّ هناك خللاً في الحالة الوطنية لظهور بعض الهويات الفرعية على السطح التي تعكس أمراضاً اجتماعية لدى بعض الشرائح في المجتمع السوري، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى صياغة هوية وطنية جامعة عبر التأكيد على مسألة المواطنة، والوحدة الوطنية، وتعزيز الانتماء، والولاء الوطني، واحترام الإنسان وحقوقه الكاملة، واحترام الحريات وحقوق المرأة، وهنا يبرز دور المؤسسات التربوية والتعليمية في التنشئة والثقافة السياسية وتعزيز ثقافة الحوار والرأي والرأي الآخر، وبناء دولة القانون بكل أبعادها، وترسيخ العمل والعقل المؤسساتي، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، ومحاربة الفساد، ووضع خطة لمكافحته (شن حرب حقيقية عليها) وعلى رأس أدواتها أتمتة العلاقات بين المواطن ومؤسسات الدولة، كما يجب أن يكون لدينا تعريف واضح لمفهوم الفساد، لكي تكون المحاسبة دقيقة وعادلة من خلال تطوير الشفافية في العمل كثقافة بعثية أصيلة، مع التركيز على الكوادر التي تمتلك ملاءة فكرية والقادرة على العطاء بغض النظر عن أي اعتبار آخر.

ثانياً: وقد يكون من الضروري جداً التأكيد على الدور البارز والمهم للحزب في المرحلة القادمة في مسألة تنظيم، وتأطير العلاقة بين الحزب والسلطة التي طالما شهدت بعض الإشكاليات، وعدم الوضوح التي أدّت إلى عدم قيام كلا الطرفين بما يصبو إليه. إذ تضع القيادة الحزبية الرؤى والاستراتيجيات والتوجهات العامة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم يقوم الحزب بدور المراقبة والإشراف على السلطة التنفيذية، ويبتعد عن ممارسة التدخل في القضايا الإجرائية، وأن يعهد للحكومة مسؤولية تطبيق هذه السياسات، وأن يكون للحزب صلاحية تقييم سنوي على الأقل لما أنجز من قبل الحكومة على ضوء التوجهات والاستراتيجيات التي وضعها، والحكم على مدى تطبيق الرؤى والاستراتيجيات التي وضعها الحزب، بما يتوافق والرؤية الصحيحة والمواءمة بين الأهداف والإمكانيات.

ثالثاً: وقد يكون من المفيد جداً للحزب في المرحلة القادمة بذل جهود مضاعفة ومكثفة على صعيد إعادة بناء الإنسان الذي لحق به تشويه في مفاهيمه ومعتقداته التي تربى ونشأ عليها، ولعلّ هذه من أهم وأنبل المهام الملقاة على عاتق الحزب للمرحلة القادمة، ويجب أن تتضافر جهود الإعلام الوطني مع وزارة الثقافة وبالتعاون مع وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، من أجل العمل على إعداد برامج توعوية مؤثرة تعزز الهوية الوطنية لدى الناشئة والشباب، وذلك لمواجهة أساليب الغزو الثقافي والفكري لعقولهم. ومن ناحية أخرى لا بدّ من تحديد دقيق للمفاهيم والمصطلحات المتداولة للمجتمع بشكل عام، ولدى الشباب بشكل خاص لما لها من تأثير على بناء شخصية الشباب وقدرتهم على المساهمة في بناء الوطن، فعلى سبيل المثال مفهوم الهوية الوطنية، والعلاقة بينها وبين المؤسسات للدولة، وترسيخ قواعد دولة القانون، بالإضافة مفهوم العدالة الاجتماعية.

ومما سبق نستنتج أن الحزب قادر على مواجهة هذه التحديات وبناء سورية المستقبل، والاستفادة من خلال انتشاره الواسع في مختلف المناطق على تحويل مقراته في الأحياء والقرى لتكون منارات حوارية وفكرية لتعزيز المصالحات الوطنية، وتعزيز أدوار عمل المجتمع المدني في تحقيق عمليات التعافي المبكر في جميع مناطق تواجده ونطاق عمله الواسع.

    عميد كلية العلوم السياسية

   الأستاذ الدكتور محمد حسون



عداد الزوار / 522168 /